الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة: رسالة “قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ”

يُعدّ الزهد في الدنيا من المقامات العالية في الإسلام، وهو ليس دعوة إلى ترك الدنيا بالكلية أو إهمال عمارة الأرض، بل هو تصحيح للمفاهيم وإعادة ترتيب للأولويات، انطلاقًا من إدراك حقيقة هذه الحياة الفانية. ويُجسّد قول الله تعالى في سورة النساء: “قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا” [النساء: 77]، جوهر هذا المفهوم، مؤكدًا على قصر الحياة الدنيا مقارنة بالآخرة الأبدية.

إن هذه الآية الكريمة تحمل في طياتها تذكيرًا للمؤمن بأن كل ما في الدنيا من ملذات ومتاع، مهما بلغ من التنوع والوفرة، هو في حقيقته قليل وزائل. فالمال والجاه والصحة والجمال، كلها أمور مؤقتة لا تدوم. وقد يُفتن الإنسان بهذه الزينة فينسى الهدف الأسمى من وجوده، وهو عبادة الله والاستعداد ليوم الحساب. وهذا لا يعني أننا لا نستمتع بما أحل الله لنا من طيبات، بل يعني ألا نجعلها غاية كُلية في حد ذاتها، وأن نُدرك أنها وسائل لتحقيق مرضاة الله، وليست أهدافًا تُشغلنا عن طاعته.

الزهد: قلب مُتعلّق بالله لا بالدنيا

الزهد الحقيقي ليس فقرًا اختياريًا أو حرمانًا من الطيبات، بل هو غنى القلب بالله، واستغناؤه عن التعلق بما سواه. إنه حالة نفسية تجعل المؤمن يُدرك أن الدنيا ليست سوى محطة عبور، وأن الغاية الحقيقية هي الفوز برضوان الله والجنة. فالزاهد هو من ينظر إلى الدنيا بعين البصيرة، فيرى زوالها وفناءها، فيعمل لآخرته كأنه يعيش أبدًا، ويعيش في دنياه كأنه سيموت غدًا.

إن الزهد يدفع المؤمن إلى:

  • القناعة والرضا: فالمؤمن الزاهد يرضى بما قسم الله له، ولا يتطلع لما في أيدي الآخرين، مدركًا أن الرزق بيد الله.
  • الإنفاق في سبيل الله: فإذا أيقن المؤمن أن متاع الدنيا قليل، وأن ما يُنفقه في سبيل الله هو الباقي، ازداد حرصه على الصدقة والبر والإحسان.
  • العمل الصالح: يجد المؤمن الزاهد في كل عمل صالح فرصة لزيادة رصيده في الآخرة، سواء كان ذلك عبادة أو معاملة حسنة أو إغاثة ملهوف.
  • التخلص من الأنانية والشح: فالزهد يُحرر النفس من قيود الطمع والشح، ويجعلها أكثر سخاءً وعطاءً.

الاستعداد للآخرة: حصاد الباقي في دار الفناء

الاستعداد للآخرة هو ثمرة الزهد في الدنيا. فبمجرد أن يُدرك الإنسان قصر الدنيا، يتجه بقلبه وجوارحه نحو دار البقاء. وهذا الاستعداد لا يقتصر على أداء الفرائض والعبادات فحسب، بل يشمل أيضًا:

  • تطهير القلب من الأمراض: كالحسد والحقد والكبر والرياء، فالقلب السليم هو الذي ينجو يوم القيامة.
  • حسن الخلق والمعاملة: فالإسلام دين الأخلاق، وحسن المعاملة مع الناس دليل على صلاح القلب واستعداده للقاء ربه.
  • التوبة النصوح والإنابة إلى الله: فالمؤمن يحرص على تجديد توبته من الذنوب، والإنابة إلى الله في كل وقت.
  • الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فمن علامات الاستعداد للآخرة، أن يحرص المؤمن على هداية الناس ودلالتهم على طريق الخير.

إن الآية الكريمة “وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَىٰ” تُرسخ مفهوم أن الدنيا دار ابتلاء وامتحان، وأن الآخرة هي دار الجزاء والخلود. وأن من يتقي الله ويُقدم لآخرته، سيجد الخير العظيم في دار البقاء. أما قوله تعالى “وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا”، فيُطمئن المؤمن بأن عدل الله سيتحقق يوم القيامة، وأن لكل عامل جزاء عمله، ولن يُنقص من أجر المحسنين شيئًا، ولن يُزاد على المسيئين ظلمًا.


خاتمة

إن الزهد في الدنيا والاستعداد للآخرة ليسا دعوة للرهبانية أو ترك الحياة، بل هما منهج حياة متوازن، يجعل المؤمن يعيش في الدنيا بجسده، وقلبه مُعلق بالآخرة. إنه تذكير دائم بأن كل ما نملكه في هذه الدنيا هو عارية مستردة، وأن اللحظة الحقيقية للراحة والاطمئنان هي في دار البقاء. فليتنافس المتنافسون في طاعة الله، وليُقدم كل منا لآخرته ما يسرّه أن يجده.

لا تعليق

اترك رد